الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومثل هذه الآية يخاطب المؤمنين كما يخاطب الكفار. فأما هؤلاء فهي نذارة لهم ليتداركوا أمرهم ويتوبوا قبل أن تغلق الأبواب. وأما أولئك فهي تحذير لهم وتنبيه لاتقاء كافة الأسباب التي تقرب بهم من هذا الطريق الخطر المشؤوم!ندرك هذا من ترتيب النهي عن الوهن والدعوة إلى السلم في الآية التالية على ما ورد في الآية السابقة من بيان لمصير الكافرين المشاقين:{فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم}..فهذا هو الذي يحذر المؤمنين إياه. ويضع أمامهم مصير الكفار المشاقين للرسول. ليحذروا شبحه من بعيد!وهذا التحذير يشي بوجود أفراد من المسلمين كانوا يستثقلون تكاليف الجهاد الطويل ومشقته الدائمة؛ وتهن عزائمهم دونه؛ ويرغبون في السلم والمهادنة ليستريحوا من مشقة الحروب. وربما كان بعضهم ذوي قرابة في المشركين ورحم. أوذوي مصالح وأموال؛ وكان هذا يجنح بهم إلى السلم والمهادنة. فالنفس البشرية هي هي؛ والتربية الإسلامية تعالج هذا الوهن وهذه الخواطر الفطرية بوسائلها. وقد نجحت نجاحًا خارقًا. ولكن هذا لا ينفي أن تكون هنالك رواسب في بعض النفوس. وبخاصة في ذلك الوقت المبكر من العهد المدني. وهذه الآية بعض العلاج لهذه الرواسب. فلننظر كيف كان القرآن يأخذ النفوس. فنحن في حاجة إلى تحري خطوات القرآن في التربية. والنفوس هي النفوس:{فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم}..أنتم الأعلون. فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم. أنتم الأعلون اعتقادًا وتصورًا للحياة. وأنتم الأعلون ارتباطًا وصلة بالعلي الأعلى. وأنتم الأعلون منهجًا وهدفًا وغاية. وأنتم الأعلون شعورًا وخلقًا وسلوكًا.. ثم.. أنتم الأعلون قوة ومكانًا ونصرة. فمعكم القوة الكبرى: {والله معكم}.. فلستم وحدكم. إنكم في صحبة العلي الجبار القادر القهار. وهو لكم نصير حاضر معكم. يدافع عنكم. فما يكون أعدائكم هؤلاء والله معكم؟ وكل ما تبذلون. وكل ما تفعلون. وكل ما يصيبكم من تضحيات محسوب لكم. لا يضيع منه شيء عليكم: {ولن يتركم أعمالكم}.. ولن يقطع منها شيئًا لا يصل إليكم أثره ونتيجته وجزاؤه.فعلام يهن ويضعف ويدعوإلى السلم. من يقرر الله- سبحانه- له أنه الأعلى. وأنه معه. وأنه لن يفقد شيئًا من عمله. فهو مكرم منصور مأجور؟هذه هي اللمسة الأولى. واللمسة الثانية تهوين من شأن هذه الحياة الدنيا. التي قد يصيبهم بعض التضحيات فيها.وتوفية كاملة في الآخرة للأجور مع عدم إبهاظهم ببذل المال مقابل هذه الأجور!{إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم}..والحياة الدنيا لعب ولهوحين لا يكون وراءها غاية أكرم وأبقى. حين تعاش لذاتها مقطوعة عن منهج الله فيها. ذلك المنهج الذي يجعلها مزرعة الآخرة؛ ويجعل إحسان الخلافة فيها هو الذي يستحق وراثة الدار الباقية. وهذا هو الذي تشير إليه الفقرة التالية في الآية: {وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم}.. فالإيمان والتقوى في الحياة الدنيا هو الذي يخرجها عن أن تكون لعبًا ولهوا. ويطبعها بطابع الجد. ويرفعها عن مستوى المتاع الحيواني. إلى مستوى الخلافة الراشدة. المتصلة بالملأ الأعلى. ويومئذ لن يكون ما يبذله المؤمن المتقي من عرض هذه الحياة الدنيا ضائعًا ولا مقطوعًا؛ فعنه ينشأ الأجر الأوفى. في الدار الأبقى.. ومع هذا فإن الله لا يسأل الناس أن يبذلوا أموالهم كلها. ولا يشق عليهم في فرائضه وتكاليفه. لعلمه سبحانه بشح نفوسهم فطرة وخلقة. وهو لا يكلف نفسًا إلا وسعها. وهو أرحم بهم من أن يكلفهم بذلها كلها. فتضيق صدورهم وتظهر أضغانهم:{إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم}..وهذا النص يوحي بحكمة اللطيف الخبير. كما يوحي برحمته ولطفه بالنفوس. ويكشف عن التقدير الدقيق في تكاليف هذا الدين. ومراعاته للفطرة. وتناسقه مع بشرية البشر بكل استعداداتها. وطاقاتها. وأحوالها. فهو عقيدة ربانية لأنشاء نظام رباني إنساني. نظام رباني من ناحية أن الله هو الذي يقيم منهجه وقواعده؛ وإنساني من ناحية أن الله يراعي في تكاليفه طاقة الإنسان وحاجته. والله هو الذي خلق. وهو أعلم بمن خلق. وهو اللطيف الخبير.وفي النهاية يواجههم بواقع حالهم تجاه دعوتهم إلى البذل في سبيل الله؛ ويعالج شح النفوس بالمال بالوسائل القرآنية. كما عالج شحها في ذات النفس عند الجهاد:{ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}..والآية ترسم صورة وصفية لواقع الجماعة المسلمة يومذاك. ولواقع الناس تجاه الدعوة إلى البذل في كل بيئة. فهي تقرر أن منهم من يبخل. ومعنى هذا أن هنالك من لا يبخلون بشيء. وقد كان هذا واقعًا. سجلته الروايات الكثيرة الصادقة. وسجله القرآن في مواضع أخرى. وقد حقق الإسلام في هذا المجال مثلًا تحسب من خوارق الأمثال في البذل والتضحية عن رضى وعن فرح بالبذل والعطاء. ولكن هذا لم يمنع أن يكون هنالك من يبخل بالمال. ولعل الجود بالنفس أرخص عند بعضهم من الجود بالمال!والقرآن يعالج هذا الشح في هذه الآية:{ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه}..فما يبذله الناس إن هو الا رصيد لهم مذخور. يجدونه يوم يحتاجون إلى رصيد. يوم يحشرون مجردين من كل ما يملكون.فلا يجدون إلا ذلك الرصيد المذخور. فإذا بخلوا بالبذل. فإنما يبخلون على أنفسهم؛ وإنما يقللون من رصيدهم؛ وإنما يستخسرون المال في ذواتهم وأشخاصهم؛ وإنما يحرمونها بأيديهم!أجل. فالله لا يطلب إليهم البذل. إلا وهو يريد لهم الخير. ويريد لهم الوفر. ويريد لهم الكنز والذخر. وما يناله شيء مما يبذلون. وما هو في حاجة إلى ما ينفقون:{والله الغني وأنتم الفقراء}.فهو الذي أعطاكم أموالكم. وهو الذي يدخر لكم عنده ما تنفقونه منها. وهو الغني عما أعطاكم في الدنيا. الغني عن أرصدتكم المذخورة في الآخرة. وأنتم الفقراء في الدارين وفي الحالين. أنتم الفقراء إلى رزقه في الدنيا. فما لكم من قدرة على شيء من الرزق إلا أن يهبكم إياه. وأنتم الفقراء إلى أجره في الآخرة. فهو الذي يتفضل به عليكم. وما أنتم بموفين شيئا مما عليكم. فضلا على أن يفضل لكم شيء في الآخرة. إلى أن يتفضل عليكم.ففيم البخل إذن وفيم الشح؟ وكل ما في أيديكم. وكل ما ينالكم من أجر على ما تنفقون هو من عند الله. ومن فضل الله؟ثم الكلمة الأخيرة وهي فصل الخطاب..إن اختيار الله لكم لحمل دعوته تكريم ومن وعطاء. فإذا لم تحاولوا أن تكونوا أهلا لهذا الفضل. وإذا لم تنهضوا بتكاليف هذه المكانة. وإذا لم تدركوا قيمة ما أعطيتم فيهون عليكم كل ما عداه.. فإن الله يسترد. ما وهب. ويختار غيركم لهذه المنة ممن يقدر فضل الله:{وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}.وإنها لنذارة رهيبة لمن ذاق حلاوة الإيمان. وأحس بكرامته على الله. وبمقامه في هذا الكون وهو يحمل هذا السر الإلهي العظيم. ويمشي في الإرض بسلطان الله في قلبه؛ ونور الله في كيانه؛ ويذهب ويجيء وعليه شارة مو لاه..وما يطيق الحياة وما يطعمها إنسان عرف حقيقة الإيمان وعاش بها ثم تسلب منه. ويطرد من الكنف وتوصد دونه الأبواب. لا بل إن الحياة لتغدوجحيما لا يطاق عند من يتصل بربه ثم يطبق دونه الحجاب.إن الإيمان هبة ضخمة. لا يعدلها في هذا الوجود شيء؛ والحياة رخيصة رخيصة. والمال زهيد زهيد. حين يوضع الإيمان في كفة. ويوضع في الكفة الأخرى كل ما عداه..ومن ثم كان هذا الإنذار أهو ل ما يواجهه المؤمن وهو يتلقاه من الله. اهـ.
|